الخميس، 19 فبراير 2009


التجنيس

اسمها ندى، ظهرت بحجابها الأنيق في مقابلة مع صحيفة جامعة "أم آي تي" تشرح وتجيب عن معوقات التعليم في السعودية. وفي معرض حديثها الصحفي ظهر حسب قولها أن السعودية هي بلدها. في تناقل هذا الخبر المبهج، قام أحد الزملاء بإخبارنا بأنها ليست سعودية، بل باكستانية. أظنه لم يقلها عنصرية، بل قالها إجلاء للحقيقة. بعدها قابلت هذه الطالبة المتميزة في يوم من الأيام، وسألتها عن الحوار الصحفي وكيف أنها أسعدتنا بحديثها عن المملكة. كانت تقول، لا أعرف بلدا آخر غير المملكة وغير مدينة جدة؛ فيها ولدت، وفيها نشأت، وفيها أجمل الذكريات، ذكريات الطفولة والمراهقة، وأول مراحلي المهنية. وفيها التحقت بأروع وظيفة، أستاذة في إحدى الكليات الخاصة لتدريس علوم الكمبيوتر. مع هذا، تقول عجزت عن الحصول على الجنسية بل مازلت أجنبية - باكستانية! كدت أن أنصحها بالزواج من سعودي، فالزواج أسهل طريق للحصول على الجنسية، ولكني عضضت لساني خجلا، وأسفا. لا أعترض هنا على طريقة التجنس بالزواج ولكني أقارن بين سهولة هذا الطريق الذي لا تتعدى منافعه الدائرة الضيقة التي يحيط بها - زوج وأطفال وربما متعدية بشكل غير مباشر على المدى البعيد، وبين طريق آخر تمتد آثاره لتشملنا جميعا كمجتمع. "ندى" طالبة في جامعة متميزة، ومعلمة حاسب آلي وباحثة من الطراز الأول، بشكل حتما يساهم في خلق وظائف، وينمي الأفكار، ويفتق الأذهان، وتمسك بيد الطلاب خطوة متقدمة نحو المجهول. بما يعني أنها قيمة مضافة للبلد، كيف وهي فوق هذا تعيش هواء وتراب هذا الوطن بكل خلاياها. ومع هذا، وبكل أسف، تبقى بدون جنسية سعودية. تقول لا أعرف إسلام أباد ولولا أن احتكاكي بعائلتي الكبيرة يدفعني لتعلم بعض العبارات، لنسينا لغتنا الباكستانية. تقول ليس فقط أن لغتي هي العربية، بل لهجتي أيضا حجازية، ومع هذا تبقى بدون جنسية سعودية وتحت رحمة كفيل ربما يغضب على والدهم يوما من الأيام ويطرده-أو ربما يموت، أو ربما تطالهم أنياب السعودة العمياء...زميل آخر مهندس وشقيقه طبيب، لا يعرفان إلا السعودية بلدا، نشأة وتربية، قدم والدهما - رحمه الله - من قديم الزمان للمملكة، وعمل فيها باحترام وتقدير. والدتهما طبيبة أطفال راقية تضمد جراح أبنائنا، وتكفكف أدمع فلذات أكبادنا، في جهد دؤوب اكتسبت احترام وثقة ومحبة المرضى والعاملين معها. ما أود أن يصل إلى ذهنية القارئ هو أن أباهما وأمهما لم يكونا عالة على البلد بل كانا مكسبا حقيقيا. هو أيضا مكسب؛ متخصص في هندسة الاتصالات الدقيقة، تخرج بأفضل التقادير من أمريكا، منحوه الجنسية، والوظيفة، فهو يعمل في تخصص دقيق جدا في صناعات الطيران الحربي، وقدموا له إغراء تلو الإغراء للجلوس في أمريكا.مع هذا عشقه جدة ومكة والمدينة. أتعرفون يا كرام أن هذا الشخص يوم وفاة والده، لم يتمكن من القدوم إلى المملكة، لأن - حسبما قيل له - كفيلهم هو والده، وبحكم أن والده توفي ولم يكن بمقدورهم تدبير كفيل بالسرعة الكافية حتى يستطيعوا الدخول إلى المملكة لتقبيل والدهم القبلة الأخيرة فهو إجراء يستدعي وقتا لا يتحمله الظرف. تخيلوا يا سادة؛ رجلاً يموت والده، ولا يستطيع أن يأتي ليمشي في جنازته لأنه لا يوجد له كفيل، مع أنه ترعرع في المملكة وشرب ماءها وتنفس هواءها. لست مقتنعا بالتوجس من موضوع التجنيس، فكل بلدان العالم تقوم بها وتقاتل في سبيل الحصول على أفضل الكفاءات الأجنبية التي تضيف للبلد ولا تنتقص منه - بل هناك من يجنس لاعبي الكرة والعدائين والمصارعين، وبقية العضلات الجسدية، فلماذا نبخل في تجنيس ذوي المهارات المتميزة من أصحاب العضلات العقلية؟ إن الأمر "سيادي" يا سادة، فيمكن سحب الجنسية إن تبين ما يستوجب ذلك في أي وقت. لنمنح الجنسية - أو على أضعف الإيمان-الإقامة الدائمة لكل من يستوفي معايير محددة تحقق أهدافنا الاستراتيجية. لنمنحها لمليون شخص، فمهما أخطأنا، ثقوا بأنه سيكون بينهم مجموعة استثنائية ستساعدنا في رفع مستوى المملكة إلى مراتب أعلى؛ أجزم أن رحم المملكة لن تضيق عن من يتوق بشغف إلى الانضمام إليها. عندما جاء توجيه الملك عبدالله بن عبدالعزيز بمنح الجنسية لحملة الشهادات العليا شعرت به كالغيث والهواء العليل في يوم هاجر. ما أتأمله أن يتم تفعيل هذا الإجراء بسرعة كافية لتضخيم فوائده، فنحن في أمس الحاجة إلى خدمات كثير من الأجانب الأكفاء، لا الأجانب إياهم. ما أتأمله أن يتم تفعيل القرار بشفافية مرتفعة عبر إبراز الخطوات العملية بوضوح كاف، حتى تكون خارطة الطريق واضحة لمن يريد أن يكون شقيقا لنا بالرضاع من رحم هذا البلد المعطاء. إن كثرة القوانين لا تدل على إنجاز إلا إن ارتبطت بتفعيل حقيقي يضمن تحقيق الأهداف المتوخاة من تشريعها وإلا أصبحت حملا بيروقراطيا إضافيا في تركة مليئة بالأحمال المضعفة لتحقيق خططنا التنموية وأحلامنا الوطنية. * أستاذ قانون في جامعة الملك سعود

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق